U3F1ZWV6ZTM0MDI5NDI3OTgzMzcwX0ZyZWUyMTQ2ODcwNTcyNTgyOQ==

إيمان الصغير - النزعة الوجودية في ديوان (مثل رحلة لن تنتهي) للشاعر المغربي عبدالحق وفاق

 

النزعة الوجودية في الديوان الشعري 

مثل "رحلة لن تنتهي" للشاعر المغربي عبدالحق وفاق

إيمان الصغير – أستاذة باحثة

 

إن الحديث عن عبد الحق وفاق، هو حديث عن  اسم شاعر مغربي شاب يحيلنا على تجربة إبداعية شابة ضمن المشهد الشعري المغربي المعاصر، تتميز بالتنوع والانفتاح على المستوى الفني والمضموني، وتمتح من مرجعيات فكرية متعددة. ولا غرابة في ذلك، ما دمنا أمام شاعر مثقف يقرأ قبل أن يكتب، ويؤسس لنص شعري تتداخل فيه نصوص أخرى من القرآن والشعر القديم والحديث ومن التراث والأسطورة. ومن جهة أخرى هي تجربة شعرية تحمل في طياتها نزعة وجودية تترجم رؤية الشاعر العميقة للعالم الذي يعيش فيه كإنسان يدرك ذاته ووجوده.

الشاعر عبدالحق وفاق


تتخذ الفلسفة الوجودية من الإنسان موضوعا لها، لذلك تبقى الوجودية أقرب الفلسفات إلى الشعر، ويبقى الشعر أقرب الفنون إلى الوجود. تبعا لذلك، تحضر النزعة الوجودية في الشعر العربي المعاصر تجسيدا لانفعالات إنسانية منبثقة من الواقع وما يشوبه من قلق وارتباك.

1- شعرية التشظي والانشطار:

الرحلة لن تنتهي عند الشاعر عبدالحق وفاق، فهو ينظر إلى الكون من داخله، ويعبر عن موقفه الوجودي من الحياة التي يعيش فيها أشكالا من التشظي والانشطار، هي شعرية جديدة - " شعرية التشظي والانشطار" - مسكونة بجدل الذات والعالم ومشغولة بالرغبة في الانعتاق من القلق الشخصي والإنساني، وقد كانت أول قصيدة من هذا الديوان ترجمة لهذا القلق، يهذب فيها الشاعر وحده الانشطار ويحمل في صدره حلما ثقيلا يقول :

وحدي أهذب هذا الانشطار

أملي على الخوف فتوحاتي

أعد ارتباك النبض الرتيب،

وأحمل في صدري

ثقل الحلم...

وحدة، انشطار، خوف، ارتباك، وحلم ثقيل...إلخ، هواجس تعتري الذات الشاعرة، في صورة يظهر فيها الشاعر وحيدا يلملم شتات الانشطار، ويقاوم الخوف ويتحمل ثقل الحلم، ويستمر هذا الانشطار في قصيدة أخرى تحمل اسم "انشطار" يقول فيها :

على فوهة الانشطار

يستريح القلب الحافي

يعُد خساراته

يندحر الكبرياء..

يودع فرحة ذليلة

إلى آخر السأم

يبكي المرايا الكاذبة

يغور في السقام.

يعاني الوجوديون من الإحساس بالألم والضيق والسقوط في شراك الإحباط واليأس، على اعتبار أن الوجود لا يمنح شيئا ثابتا، وفي هذا الإطار يعود عبدالحق وفاق مرة أخرى إلى الانشطار، ليجسد صورة وجودية مركبة، تحيل على عالم عبثي مليء بالانكسارات، يفتقد لوجود حياة إيجابية مشبعة بالاستقرار النفسي، عالم يعبر فيه عن انشطاره ويعد خساراته بعدما انهزم الكبرياء واندحر، يودع الفرح ويستقبل الضجر، وفي صورة مستفزة يفضح المرايا الكاذبة التي تعكس زيف الإنسان.

2- شعرية الهذيان.

يقول نيتشه في كتاب هكذا تكلم زرادشت: "اللغة نوع من الجنون العذب، فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق جميع الأشياء".

يتعالى الشاعر باللغة ويرتقي بها إلى مستوى الهذيان كنوع من النشوة الغامرة، التي تنسلخ فيها الذات عن الوجود، وترحل في عوالم تتصارع فيها الأفكار وتضطرب. ويمكن اعتبار هذا الهذيان هروبا من ضيق الواقع الذي يقلص حرية الشاعر في التعبير، إلى عالم مطلق يعيش فيه الجنون ويسلم اللغة إلى ذاتها. على اعتبار أن الإنسان بشكل عام، حينما يترك مهمة التفكير إلى الأنا اللاواعية ويدخل في حالة من الهذيان يكون أكثر صدقا في التعبير، يتمثل وفاق - شاعر الهذيان - هذه اللغة ويسلمها إلى ذاتها في قصيدة بعنوان "هذيان"، إذ يقول:

يهذي الرائي فوهة النكوص،

بأعين ثكلى

يرتب هذا الانشطار.

لا تبك الهجر

 يا غريبة اللحظ

هو في عجلة يسري...

تهذي الذات الشاعرة وتقف على فوهة النكوص الذي صنفه فرويد كآلية دفاعية  Mécanismes défense   يستخدمها الإنسان بشكل إرادي أو لا إرادي في مواجهة التحديات النفسية، عبر الهروب إلى مراحل عمرية سابقة كالطفولة والاختباء وراء سلوكات طفولية، تشعره بالأمان إلا أن الشاعر هنا، ينظر إلى النكوص والحنين إلى الماضي بعيون ثكلى من الفقد، فقد الأمان والطمأنينة، والوقوع الدائم في براثن الانشطار الذاتي.

3- فلسفة الأنا الشاعرة.

يقول فولتير "كن رجلا ولا تتبع خطواتي" عبارة يرددها كل من أراد شق طريقه نحو التفرد بأناه. فالإنسان أساس الوجود، كائن حر ومستقل بذاته صاحب قرار وإرادة وكيان، يختار طريقته في الحياة، فكما يقول سارتر "أنا اختار إذن انا موجود"، وفي هذا السياق اختار وفاق أن يكون ، هو نفسه وألا يشبه الآخر وأن يصنع ذاته ويجعلها تشببه، يقول في قصيدة "وحدك في كفي تطلب الخلاص" :

أنا لن أكون صوتك،

لن أهب عينيك لون سهادي

لن أكون أغنيتك الأثيرة،

وأنت..

لن تكون صداي

أو لحنيَ الغريب.

أنا منذ ميلادي

كنت أكره أن يكون الظل صديقا

كنت أكره أن يكون السلام عادة،

أنا منذ ميلادي

كنت فردا

شبيه نفسي أهذب عزلتي

بلا أثر

ولا ظل يتعقبني.

يرفض الشاعر أن يكون صوتا للآخر، أو أن يكون هذا الآخر صدى له. هي رغبة جامحة في التفرد وتقديس الأنا، يرفض ظله الذي يتْبعُه، يريد أن يمشي بلا ظل يتعقبه، كما يكره العادات المألوفة التي تجعلنا خاضعين لنهج وأسلوب واحد يتَّبعهُ الجميع، يحدد إذن عبدالحق وفاق وجوده، في الفردانية والحرية المطلقة، يختار ما يريد أن يكون عليه نسخة واحدة من نفسه.

4- جدلية الثنائيات المتضادة.

الثنائيات المتضادة حسب البنيوية، دليل على أن اللغة في الواقع تقوم على صيغة اثنين بدل الواحد، وبشكل عام فإن الوجود في جوهره يقوم على كل ما هو ثنائي مختلف ومتناقض، وفي الشعر تمثل هذه الثنائيات رؤيا الشاعر للوجود، وهذا ما يميز ديوان "مثل رحلة لن تنتهي " بحيث يقوم على هذه النظرة الثنائية للوجود وتحضر بشكل قوي في معظم القصائد يقول وهو يزاوج بين لفظتين متناقضتين في الشكل والمعنى:

داخلي... زهر اعتباطي الترتيب

وخارجي... رماد كامل التنسيق

وفي قصيدة أخرى يجمع بين العتمة والإصباح الكلمة الأولى تحيل على الظلام، والثانية على الضوء، يقول:

تربي أحلام العتمة

ليسلبها فتور الإصباح

ويجمع كذلك في قوله بين ثنائيتين متضادتين؛ هما الظن واليقين:

حكم نفسك رفعة المقال

ساور ظنك اليقين

 

يقول أيضا في قصيدة أخرى:

هذا صوتي...

وقع وثيق

ضد البدايات الشوهاء

وقوام النهايات الجوفاء

ويمكن الوقوف أيضا عند عبارة مثيرة جدا يقول فيها: "ويسبقني ورائي" تجمع بين التضاد وبين التصوير الفني المغرق في الإيحاء والتجريد، بعيدة كل البعد عن التشكيل الاستعاري المألوف، تدفعنا هذه الصورة المتضادة إلى الدهشة، حينما نقرأ أن المألوف عندنا الوراء يكون دائما في الخلف، لكن الشاعر اختار أن يمنحه هنا فرصة السبق إلى الأمام.

 

إيمان الصغير – أستاذة باحثة

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق